ستعود دقات قلبي
لم أكن أعرف أن هناك ثمة حياة أخرى, تقبع في مكان ما على سطح هذه الكرة الأرضية, كنت أظن أننا الوحيدين عليها, لكني اصطدمت بالواقع مباشرة, وكان علي خوض هذه التجربة كي يعود كل شيء إلى حقه الطبيعي, ولو كان قاسي جداً, لكنه كان عادل جداً وجداً, فلا تحزني أمي فالمستقبل ملك لك الآن, وبالرغم من أنها كانت حياة قاسية لكني كنت أسعد الناس بها, خاصة عندما عايشت قسوتها وصدق مشاعرها وطيبتها لمس اليد, لكن الغريب هنا..!! هل أنا أضحك على نفسي أم لا, لأني شعرت رغم غرابتها أنها هذه هي حياتنا الحقيقية, لكن من دون تعليق ..؟؟ قبل دوام المدرسة بشهر ونصف تقريباً, قابلت امرأة غريبة الشكل, كانت بحالة مزرية جداً وتبيع بعض الأشياء في الشارع, ويبدو من نظراتها أنها عرفت من أكون, بينما أنا لم أعرف من تكون أبداً, وبعدما ابتعدت عن المكان الذي كانت فيه وافترقت أشعة عيوننا, عدت البيت مضطربة أفكر بأشياء كثيرة لم أدري ما هي, وخيوط عقلي ما زالت متشابكة معها ومع نظراتها ومنظرها, وكأنه أكثر شيء يشدك لشيء, هكذا استطعت أن أصف شعوري بتلك اللحظة, وفي المساء كنت أشاهد التلفاز مع زوجة والدي عندما دخلت علينا بشكل رهيب وفي يدها مسدس, ظننت في بداية الأمر أني كنت أحلم من شدة تفكيري بها, وكيف استطاعت الدخول من دون أن يشعر الحارس بها ويراها لم أعرف, يا إلهي ما الذي يحدث هنا أمام عيوني, وقفت برهة مندهشة بلا حركة أنظر فقط إلى وجهها وتحركاتها, محاولة أن أفهم ما الذي يحدث وما سبب مجيئها هنا, أو ما الذي تريده من مجيئها هنا, هل تبعتني وعرفت مكان بيتي من أجل السرقة مثلاً, كان لا يبدو عليها ذلك عندما رأيتها أول مرة لم يبدو عليها أنها بسارقة أبداً, وفجأة أمسكت بي عندما حاولت زوجة والدي الاتصال بوالدي الذي كان على الطريق إلى هنا, قالت لها اتركي الهاتف وإلا قتلتها, فقالت اقتليها إذاً, والحمد لله جاء والدي, فتركتني فجأة وحاولت الهرب لكن الحارس هذه المرة استطاع الإمساك بها, أخذها عند والدي الذي ضربها بقوة وأمر الحارس أن يربطها على كرسي وأن يلصق فمها كي لا تصرخ وأسمع صوتها, أو كي لا تقول شيء لا يريدني أن أسمعه, ثم غادر الحارس بعدما أمره والدي بقفل فمه, أما أنا فكنت خائفة جداً, وقلت لزوجة والدي هل كنت حقاً ستتركينها تقتلني, فقالت وكأن الكلام الذي خرج منها, كأنه بدا كزلة لسان ستندم عليها كثيراً فيما بعد, لن تقتلك فهي أمك, ولم أتوقف ثوان ولم أفكر أبداً بكلامها, ركضت نحوها مباشرة, ودفعت الكرسي الذي كانت تجلس عليه أرضاً, بينما كانت فوهة مسدس والدي مصوبة مباشرة نحو رأسها, ويا لها من كارثة..!! فقد وضع للمسدس كاتم صوت أيضاً ليكتم جريمته بقتل أمي التي طالما تمنيت أن ألمح وجهها فقط, وإن حاول إخفاء جريمته عني كيف سيخفيها عن الله تعالى, أماه التي جاءت هنا وهي تعرف أنها في خطر مؤكد, لا لتسرق ماله بل لتسرقني أنا كانت تريدني أنا, فككت وثاقها من الكرسي, فقال والدي ابتعدي عنها وإلا قتلتك معها, عندها علمت أن لا قيمة حتى لي عنده لا يهمه سوى ماله وسهراته, وفي هذه الأثناء دخلت زوجته وقالت لقد جاءت الشرطة, فقال ومن اتصل بها, فقالت وهي ترتعد أنا.. أنا اتصلت, وبينما كانا يتما حديثهما, كنت أنا وأمي نركض حتى وصلنا منتصف الطريق, قال والدي للشرطة نعتذر منكم يبدو أنه كان بلاغ كاذب ولن يتكرر إن شاء الله تعالى, وصباحاً استيقظت أمي على صوت أمها هيا إلى العمل, إلى العمل جملة أول مرة في حياتي أسمعها, ثم حاولت إيقاظي بقوة فقالت لها أمي على مهلك, فجسدها ناعم ليس كجسدنا الذي تعود على العذاب حتى أصبح كالصخر, ثم استيقظت على صوتهما, كانت تجلس على السرير فقالت لي أمي لا تخافي منها لا تخوف, فضحكت وخرجت, وقبل أن أنسى سألتها لما فعلت ذلك لما غامرت بنفسك ودخلت البيت بهذه الطريقة, وأنت تعلمين تماماً أن والدي سيؤذيك إن أمسك بك, كان بإمكانك انتظاري حتى أخرج من البيت والتحدث معي, قالت وهل كنت ستصدقيني وتذهبي معي هكذا وبكل بساطة, عندها لم أعرف بماذا أجيبها فسكت, ثم قالت على أي حال لم أستطع الصبر حتى الصباح كي أنتظر حتى تخرجي وأراكي مرة أخرى, فقلت لا بأس حصل خير, ثم سألتني وهي تضحك من شدة سعادتها ماذا تريدين على الفطور, فقلت كرواسان وحليب, صمتت قليلاً وهي ما تزال جالسة, قلت ماذا ما الأمر, قالت ربما لم أتعلم لغات من قبل, فقلت هذه لغة عربية قالت حسناً لم أتعلم العربية, أضحكتني أماه لا يهم كما تفطرين أفطر, ثم خرجت وبينما كنت أنهض من السرير انكسر وأصبح على الأرض, فركضت خائفة عندها فقالت لا تخافي لا بأس ليست المرة الأولى التي ينكسر فيها, قالت ذلك وهي تضحك من كل قلبها وبكل بساطة وعفوية, يا إلهي إنها فقيرة وتضحك والسرير قد كسر, بينما والدي الغني جداً دائماً غاضب ومكشر وكئيب, وإذا كسرت الخادمة كأس صغير يقيم الدنيا عليها وعلينا, يا إلهي ما هذه الدنيا العجيبة وما هذه القلوب التي تعيش هنا وما هو أصلها, ثم خرجت للشرفة وأنا سعيدة, لكن فجأة تحطمت سعادتي عندما رأيت ذلك المنظر, ما هذه البشر التي تتكدس هناك في تلك البيوت في الأسفل, ومن أين جاء كل هؤلاء الناس, كانت جدتي تنظر إلي بينما كنت أقف مذهولة وأنا أشاهد ما أشاهده, وربما كانت تضحك علي في سرها, فتقدمت نحوها ببطء وحذر, كانت تبيع بعض الأشياء لعامل يعيش في هذا المكان, ليبيعها بدوره في المدينة, ثم قال العامل لها, من هذه عاملة جديدة, فقالت له لا, بل هذه حفيدتي, فاذهب وتابع عملك, قلت لها هل حقاً أنت جدتي, قالت أم تلك المرأة التي تحضر الفطور منذ ساعة, أجل أنا أمها, فعانقتها فرحة, لكنها لم تحبذ أن أناديها بجدتي, قالت كي لا تشعر أنها كبيرة في السن, ثم نادتنا أمي للطعام وأخيراً يا سلام, دخلت بشوق لأتناول فطوري بعد طول انتظار, وفي ثوان انطفأ شوقي المسكين, قلت أماه أين الفطور, قالت هذا هو, تعالي واجلسي قربي, إنها سندويشات زعتر وزيت فقط, قالت لا وهناك الشاي أيضاً, عيشي بتلك النعم, قلت الحمد لله والشاي بلا سكر, فقالت جدتي ولا يهمك حلوتي فخرجت وفي يدها صحن صغير وأحضرت به السكر, لا أدري من أين المهم أنه حضر, وضعت القليل في الشاي وأكلت وأنا أبتسم بل أضحك بل لا أعرف .... لا أعرف, ولا أدري لما سألتني ماذا أريد على الفطور, طالما لا يوجد عندها سوى الزعتر, ولا أدري أين تذهب بالمال الذي تحصل عليه هي وجدتي, قالت كله يذهب ثمن أجرة البيت, أجل أجرة هاتين الغرفتين, حيث لا ترضى حتى دجاجات خادمتنا العيش فيهما, وفي هذه الأثناء كان والدي غاضباً جداً, ليس لأنها أخذتني بل لأنه لم يتمكن من النيل منها, وكأن كان هناك ثأر طويل وقديم بينهما, قالت له زوجته لا تقلق غداً ستعود وحدها, فلن تحتمل الحياة هناك, ويبدو أن والدي لم يفهم كلامها لذا تركها ومضى لعمله, أجل الحياة هنا كأنها ضرب من الخيال أشعر وكأني كالفتاة أليس في بلاد العجائب, هذا المكان الذي ما كنت لأراه ولا في أحلامي, ها أنا أراه الآن في الحقيقة بل وأعيش فيه, وسأصفه ومن دون مبالغة, إنه كالانتقال من الماء إلى النار أو ممكن بالعكس لا أدري, المهم أني أعيش حالة جديدة من حياتي, تجربة ممتعة وغريبة ألامسها بشكل حي ومباشر, وأنا أحاول فهم هذه الحالة في هؤلاء الناس الذين يعيشون هنا من زمن بكل حب ورضا وقناعة, وربما الآن أنا أعيش حالة جديدة من الانبهار والمفاجأة, ولم أخرج منها بعد, لكن بعد أيام قليلة خرجت, إلى ما لم أرد أن أعرفه, الحقيقة, حقيقة صعوبة العيش هنا, وأي صعوبة, صرخت فجأة أماه, أين الماء أين الكهرباء, كانت تعود كل مساء لا تكاد تستطيع الكلام من شدة تعبها, كانت تنام على السرير الواقع أرضاً, تنام ملأ جفونها, وأنا جالسة حزينة أنظر إليها وإلى حالي, ورغم ذلك بحق كنت سعيدة لأني قربها ...... يتبع